علم النفس الصناعي والتنظيمي| ,

تخسر المنظّمات الأمريكيّة سنويًّا ما يُقدَّر بأكثر من 50 مليار دولار جرّاء السّلوكيّات الخاطئة الّتي تضرّ بمصالحها وبمصالح كلّ الأطراف المعنيّة بالمنظّمة (as cited in Khalsa, 1990). تُسمّى هذه السّلوكيّات في علم النّفس الصّناعيّ التّنظيميّ بسلوكيّات العمل غير المنتِجة (counterproductive work behaviors)، وتُعرَف بشكلٍ أدقّ على أنّها الأفعال الإراديّة الّتي تضرّ بالمنظّمة أو أصحاب المصلحة من العاملين/العاملات، والمشرفين/المشرفات، والعملاء/العميلات، وغيرهم، وتتضمّن: السّلوكيّات المسيئة للآخرين، والعنف (اللفظيّ والجسديّ)، وعدم القيام بالعمل بالطّريقة الصّحيحة عمدًا، والتّخريب، والسّرقة، والانسحاب (كالغياب، والتّأخير، وترك المنظّمة؛ Spector, & Fox, 2005). لكي يُعتبر السّلوك غير منتجٍ، يجب أن يكون بقصد وإرادة، وليس حادثًا (Spector, & Fox, 2005)، بمعنى أنّ الموظّف اختار بنفسه أن يقوم بهذا الفعل المضرِّ. لا يتطلّب السّلوك غير المنتج وعيًا من الشّخص بأنه يقوم بفعل مضرّ، فقد يقع دون وعيٍ منه بالنّتائج، ولكن كان باختياره (Spector, & Fox, 2005).

يُعتبر عدم الانضباط وعدم الالتزام بساعّات العمل من السّلوكيّات غير المنتِجة، وتدخل ضمن إطار الانسحاب وسرقة الوقت، ويشكّل هذا هاجسًا كبيرًا للكثير من المنظّمات، إذ إنّ لدى المنظّمات مخاوف بشأن إنتاجيّة الموظّف، وأداء العمل. بالنّسبة لها، كي ينتج وينجز الموظّف والموظّفة عملهم، يجب أن يلتزموا بساعّات العمل، ولا يتأخّروا عن الحضور، أو يبكروا في الخروج. هذا ما يدفعها لسنّ أنظمة وأساليب لمراقبة ومتابعة حضور وانصراف الموظّفين، وربط ذلك بمستحقّاتهم الشّهريّة. هذه الأنظمة قد تكون نافعة، ولكنّها قد تكون مضرّة أيضًا إذا ما استُخدِمت بطريقة تنتهك خصوصيّة الموظّفين/الموظّفات، أو تكون شاهدًا على عدم ثقة المنظّمة بمنسوبيها ومنسوباتها. من هذه الأنظمة تتّبع الموظّفين والموظّفات من خلال هواتفهم النّقّالة. استخدام مثل هذه التّقنيّة أصبح سهلًا وغير مكلفٍ.

ما تأثير المراقبة في المنظّمة؟

تشير الكثير من الدّراسات والتّجارب إلى أنّ المنظّمات الّتي تستخدم التّقنيّة (ككاميرات المراقبة أو التّعقّب بالجوّال وغيرها) في مراقبة الموظّف/الموظّفة تتّسم ببيئات ترتفع فيها معدّلات القلق، فيصبح الموظّف والموظّفة خائفين من أخذ فترات الرّاحة، ممّا يرفع الإجهاد ويقلّل الإنتاجيّة (Wong, 2020; Amick & Smith, 1992). والأسوأ من ذلك، تُفقِد مراقبة الموظّف والموظّفة الثقة في بيئة العمل، خاصّةً وأنّ الثّقة شعور متبادل، فكلّ ما شعرَ الموظّف والموظّفة أنّهم غير أهل للثّقة، قلّت ثقتهم بالمنظّمة، فتضعف دافعيّتهم ويتأثّر إنجازهم، فالثّقة هي شريان الإنجاز، ومتى ما فُقدت فُقد الرّضا الوظيفيّ (Samaranayake & Gamage, 2011).

تحوِّل مراقبة الموظّف بشكل عامّ بيئات العمل لسجون مجهدة ومنفّرة، إذ إنّ 41% من الشّركات الّتي تطبِّق أنظمة المراقبة تعاني من معدّل تسرّب وظيفيّ عالٍ، خاصّةً تسرّب الموظّفين والموظّفات ذوي الكفاءة، فقد أظهر 75% من موظّفي البيئات الّتي تطبِّق أنظمة رقابة رغبتهم في الانتقال إلى بيئة عمل تقدِّر جودة أدائهم أكثر من معدّل السّاعّات الّتي تُقضى في المكتب (VMware, 2021). فالموظّف المتميّز لا يرغب بالبقاء في بيئة مراقبة مشحونة في الوقت الّذي يَعرض له سوق العمل فرص نموّ في بيئات تسودها الثّقة والمرونة.

إنّ أسوأ ما في مراقبة الموظّف أنّها تؤدّي إلى حلقة مفرغة من السّلوكيّات السّلبيّة في المنظّمة (Griffin & Lopez, 2005)، أبسطها تخريب أجهزة المراقبة والغشّ، وأسوؤها جرائم لا يمكن تتبّعها. إذًا لا يحتمل الجوّ المشحون بعدم الثّقة إلّا مَن له مصلحة بالبقاء أو التّخريب.

تخاطر المنظّمات ببيئة عملها إذا لجأت للمراقبة لحلّ مشاكلها دون النّظر في الأسباب الحقيقيّة وراء هذه المشاكل، ناهيك عن أنّ المراقبة تركّز غالبًا على الإنتاجيّة الكمّيّة، كالتّواجد في المنظّمة طوال وقت العمل، ومعدّل الرّدّ على رسائل البريد الإلكترونيّ، وعدد الاجتماعات، وتغفل عن جودة أداء الموظّفين والموظّفات ذات الأثر الأكبر في تطوّر المنظّمة ورفع إيراداتها. إنّ ما تحتاجه المنظّمات اليوم ليس مراقبة الموظّف والموظّفة، وإنّما تقصّي وفهم المشاكل الّتي تقود لسّلوكيّات العمل غير المنتجة، ومن ثمّ التّعامل مع هذه المشاكل تحديدًا. إنّ السّؤال المهمّ هو: لماذا تظهر هذه السّلوكيّات أساسًا؟

ما الّذي يدفع الموظّفين والموظّفات لسّلوك العمل غير المنتج (counterproductive work behavior)؟

يهتمّ الباحثون في علم النّفس الصّناعيّ التّنظيميّ بمعرفة مسبِّبات سّلوك العمل غير المنتج، وذلك لفهمه، والتّنبّؤ به، ومحاولة الحدّ منه. أحد أبرز الأبحاث في هذا المجال كان بقيادة الباحثين بول إي سبيكتور وسوزي فوكس (2005، 1998)، اللذان توصّلا إلى ما أسمياه بنموذج الضّاغط – الانفعال لسلوك العمل غير المنتج (The Stressor-Emotion Model of Counterproductive Work Behavior). يوضّح النّموذج العوامل المسبّبة، ويشرح كيف تؤثّر على بعضها البعض لتقود إلى القيام بسلوك العمل غير المنتج. حسب النّموذج، هنالك عوامل بيئيّة متعلّقة بالمنظّمة، وعوامل فرديّة مرتبطة بالموظّفين والموظّفات (انظر نموذج 1) .

نموذج 1: نموذج الضّاغط – الانفعال لسلوك العمل غير المنتج. مستنسخ ومعاد إعداده من سبيكتور وفوكس (2005).

  • العوامل البيئيّة:

العوامل البيئيّة هي عبارة عن ضواغط (stressors) أو عوامل ضاغطة تستلزم سلوكيّات تكيّفيّة للتّعامل معها، مثل: أعباء العمل، وغموض الدّور، وتعارض الأدوار، وعدم قدرة الفرد على القيام بدوره، والمراقبة. حسب النّموذج، يقيّم الموظّفون والموظّفات هذه العوامل ويدركونها بشكل مختلف، إذ إنّ هناك اختلافات فرديّة بين الطّريقة الّتي تُفسَّر فيها العوامل الضّاغطة، فمثلًا، قد يتعرّض شخصان لنفس الضّاغط، ولكن يختلفان في إدراكهما وتفسيرهما له. على الرّغم من أهمّيّة الضّاغط نفسه (إذ لم يسمَّ ضاغطًا من دون سبب)، إلّا أنّ الضّاغط الذي أدركه الموظّف والموظّفة هو الأهمّ. يدرك الموظّفون والموظّفات الضّواغط بناءً على عدّة أمور، منها: (1) مدى تهديدها لعافيتهم ورفاههم. (2) مدى تعارضها مع أهدافهم. (3) عزوهم لمصدرها (هل هو ناتج عنهم أو عن المنظّمة؟). من المهمّ الانتباه إلى أنّ هناك ضواغط يفسِّرها ويدركها الغالبيّة بنفس الكيفيّة، بمعنى أنّ هناك إجماعًا عليها.

  • العوامل الفرديّة:

العوامل الفرديّة هي جملة العوامل الّتي ترتبط بالموظّفين والموظّفات وتؤثّر على استجابتهم للضّواغط. حسب النّموذج، هنالك عدّة عوامل: الانفعالات السّلبيّة (negative emotions)، والشّخصيّة (personality)، والتّحكّم المدرك (perceived control)، والضّاغط المدرك (perceived stressor). تحّدثنا في سياق العوامل البيئيّة عن الضّاغط المدرك لارتباطه المباشر بها، إلّا أنّه يبقى عاملًا فرديًّا. أمّا فيما يلي، فتوضيحًا للعوامل الفرديّة الأخرى:

  1. الانفعالات السّلبيّة: هي ردّات فعل غير سارّة، وعادةً ما تكون معطّلة ومعرقِلة للتّقدّم نحو أهداف الفرد (APA Dictionary of Psychology).
  2. الشّخصيّة: تعتبر بنية ثابتة من السّمات، والسّلوكيّات الّتي تشكّل التّكيّف الفريد للفرد مع الحياة، وتتضمّن: السّمات الأساسيّة، والاهتمامات، والدّوافع، والقيم، والمفاهيم الذّاتيّة، والقدرات، وأنماط الانفعالات. هنالك اتّفاق على أنّ شخصيّة الفرد تتنبّأ بسلوكه (APA Dictionary of Psychology).
  3. التّحكّم المدرك: هو اعتقاد الشّخص بقدرته على التّأثير في نفسه وسلوكه وفي البيئة الخارجيّة، وقدرته على الوصول إلى نتائج مرغوبة (Wallston et al., 1987).
 
  • كيف تجتمع العوامل البيئيّة والفرديّة لتُحدِث سلوك عمل غير منتج؟

يشير النّموذج إلى ترابط يبدأ من الضّواغط البيئيّة، مرورًا بالضّواغط المدركة والانفعالات، ووصولًا إلى سلوك العمل غير المنتج (انظر نموذج 1). هذا يعني أنّ الضّواغط الّتي يدركها الأفراد هي عوامل بيئيّة تقود إلى انفعالات سلبيّة (مثل الغضب والإحباط)، وكنتيجةٍ إلى سلوك غير منتج. مثلًا، يقود تعارض الأدوار (أحد الضّواغط) إلى انفعال القلق، بينما تقود القيود التّنظيميّة (مجموعة من الضّواغط) إلى انفعال الغضب (Spector & Goh, 2001)، ويقود القلق إلى العنف، والعداء، والتّخريب والسّرقة (Chen & Spector 1992)، فيما يقود الإحباط إلى العنف، والعداء.

يجب الانتباه إلى أنّ سلوك العمل غير المنتج لا يحصل بمعزل عن تأثير عاملين أساسيّين، ألا وهما: التّحكّم المدرك والشّخصيّة، فهما يزيدان أو يقلّلان من احتماليّة حدوث سلوك العمل غير المنتج (Spector, & Fox, 2005). بالنّسبة للتّحكّم المدرك، فعندما يشعر الموظّف أو الموظّفة أنّ الموقف الضّاغط تحت سيطرتهم ويمكنهم التّعامل معه، فإنّ احتماليّة تقييمهم له بأنّه ضاغط منخفضة، وكنتيجةٍ تنخفض احتماليّة انخراطهم بسلوك العمل غير المنتج. في المقابل، ترتفع احتماليّة القيام بسلوك العمل غير المنتج (تحديدًا العنف) كردّ فعل للغضب عندما لا يشعر الموظّف أو الموظّفة بالقدرة على التّحكّم. أمّا بالنّسبة للشّخصيّة، فهنالك فروق فرديّة تؤثّر في احتماليّة حصول السّلوك غير المنتج، فحسب النّموذج، ترتفع احتماليّة ارتكاب السّلوك غير المنتج لدى الموظّفين والموظّفات المرتفعين على سمة الغضب، وسمة القلق، وسمة النّرجسيّة، وسمة مركزيّة الضّبط الخارجيّة (Chen & Spector 1992; locus of control).

تجدر الإشارة إلى أنّ العلاقة بين العوامل المذكورة في النّموذج ليست سببيّة، بل على العكس، هي ترتبط ببعضها البعض، فمثلًا، تؤثّر الشّخصيّة والانفعالات على الطّريقة الّتي يدرك بها الأفراد الضّواغط في المنظّمة، إذ قد يدرك الأشخاص المرتفعون على سمة الغضب الضّواغط البيئيّة على أنّها أكثر خطورة من غيرهم. كما أنّ هنالك ارتباط بين الضّواغط التّنظيميّة والسّلوك غير المنتج بشكل مباشر، فمثلًا، ترتبط القيود التّنظيميّة، وغموض الدّور، وتعارض الأدوار، والخلافات البين شخصيّة بالسّلوك العدوانيّ، والعنف، والتّخريب (Chen & Spector 1992).

ما الّذي على المنظّمات القيام به؟

تلخيصًا لما ذكرناه، تشكّل سلوكيّات العمل غير المنتجة خطرًا على المنظّمات، وهاجسًا كبيرًا لها. عندما تلجأ المنظّمات لأساليب ضبط ومراقبة غير مدروسة ولا تعالج المشاكل من جذورها، تقع في مشاكل أكثر تعقيدًا (مثل فقدان الثّقة)، وتغفل عن حلّ المشاكل الحقيقيّة، ما يسبّب هدرًا لجهودها ومواردها. هنالك فرصة كبيرة للمنظّمات للحدّ من سّلوكيّات العمل غير المنتجة من خلال توظيف المنهج العلميّ والمعرفة النّفسيّة في فهم هذه السّلوكيّات في سياق كلّ منظّمة، ومن ثمّ محاولة معالجتها. ما ذُكر في هذه المقالة ما هو إلّا نذر يسير من الفهم الّذي توصّل له الباحثون في علم النّفس الصّناعيّ التّنظيميّ في موضوع سلوك العمل غير المنتج. يمكن للمنظّمات توظيف هذه المعرفة في الحدّ من السّلوكيّات الخاطئة، وتحسين بيئتها، ورفع كفاءتها. فمثلًا، يمكن للمنظّمات استحداث أنظمة متابعة فعّالة وضابطة دون أن تنتهك خصوصيّة موظّفيها أو تخسر ثقتهم، ويمكنها أن تتقصّى العوامل الضّاغطة في بيئة العمل، وتعمل على تقليلها لتحدّ من ظهور سّلوكيّات العمل غير المنتجة. كما يمكنها استخدام أساليب توظيف تضمن اختيار موظّفين بسمات شخصيّة تنخفض لديها ارتكاب هذه السلوكيات، كأن توظِّف المرتفعين على سمة الوداعة (conscientiousness)، والمنخفضين على سمة الغضب. هذه ليست عمليّة سهلة، بل إنّها صعبة ومعقّدة، إلّا أنّها ممكنة وفعّالة متى ما أدركت المنظّمة أهمّيّة التّعامل معها، وسخّرت مواردها لحلّ هذه المشكلات بالاستعانة بالمختصّين في علم النّفس الصّناعيّ والتّنظيميّ، والمعنيّين بالبحث والتّقصّي والتّدخّلات العلميّة-النّفسيّة في مكان العمل.

[1] Khalsa, G. S. (1990, April). An Inside Job. AWCI’s Construction Dimensions. Retrieved March 11, 2022, from https://www.awci.org/cd/pdfs/9004_g.pdf
[2] Spector, P. E., & Fox, S. (2005). The Stressor-Emotion Model of Counterproductive Work Behavior. In S. Fox & P. E. Spector (Eds.), Counterproductive work behavior: Investigations of actors and targets (pp. 151–174). American Psychological Association. https://doi.org/10.1037/10893-007
[3] May Wong, “Stanford research provides a snapshot of a new working-from-home economy,” Stanford News, June 29, 2020 (https://news.stanford.edu/?p=34988).
[4] Amick, B. C., & Smith, M. J. (1992). Stress, Computer-Based Work Monitoring and Measurement Systems: A ConceptualOverview. Applied Ergonomics, 23, 6-16. http://dx.doi.org/10.1016/00036870(92)90005-G
[5] Samaranayake, V., & Gamage, C. (2011). Employee Perception towards Electronic Monitoring at Work Place and Its Impact on Job Satisfaction of Software Professionals in Sri Lanka. Telematics and Informatics, 29, 233-244.http://dx.doi.org/10.1016/j.tele.2011.08.003
[6] VMware. (2021, November 10). Employee surveillance could threaten trust and increase staff turnover, VMware Research warns. VMware News and Stories. https://news.vmware.com/releases/virtual-floorplan
[7] Griffin, R. W., & Lopez, Y. P. (2005). “Bad behavior” in organizations: A review and typology for future research. Journal of Management, 31(6), 988-1005.‏
[8] APA Dictionary of Psychology
[9] Wallston, K. A., Wallston, B. S., Smith, S., & Dobbins, C. J. (1987). Perceived control and health. Current Psychology, 6(1), 5–25. https://doi.org/10.1007/bf02686633
[10] Spector, P. E., & Goh, A. (2001). The role of emotions in the occupational stress process. In Exploring theoretical mechanisms and perspectives. Emerald Group Publishing Limited.
[11] Fox, S., Spector, P. E., & Miles, D. (2001). Counterproductive work behavior (CWB) in response to job stressors and organizational justice: Some mediator and moderator tests for autonomy and emotions. Journal of vocational behavior, 59(3), 291-309.
[12] Chen, P. Y., & Spector, P. E. (1992). Relationships of work stressors with aggression, withdrawal, theft and substance use: An exploratory study. Journal of occupational and organizational psychology, 65(3), 177-184.

Comments are closed.

Close Search Window
Share via
Copy link
Powered by Social Snap