تكاد تكون علاقة الشخص بذاته هي أكثر العلاقات تعقيداً، وقلما يمعن أحدنا في هذه العلاقة. فنحن منشغلين بمكانها ومكانتها، مزاياها وعيوبها، نجاحاتها وإخفاقاتها. نراقب بحرص هذا البريق الذي نعكسه إلى الخارج، وإذا التفتنا إلى الداخل، كثيراً ما نلتفت بنظرة المقيّم، أو الموجّه. وحين نكون مجرد موجّهين ومقيّمين لذواتنا، لا نجد الفرص الكافية لنعرفها، نقدرها، ونحبها.
تقدير الذات Self Esteem هو أحد المفاهيم الجوهرية للصحة النفسية، التوجه الإنساني في علم النفس يولي اهتماما كبيراً لمفهوم الذات، وأبرز المنظرين الذين تناولوا هذا المفهوم هو كارل روجرز في نظرية العلاج المتمركز حول الشخص، فهو يرى أن أصل معظم المشكلات النفسية تكمن في نظرة الأشخاص لأنفسهم كأشخاص غير أكفاء، وغير جديرين بالحب، وهذا هو سبب إيمانه بأهمية القبول غير المشروط. الذي يفصل قيمة الذات عن قيمة ما تكونه أو ما تفعله، فأنت بذاتك كإنسان مقدر ومحبوب. وإشباع هذه الحاجة من وجهة نظر روجرز يرتقي بالشخص إلى السعي المتزن للوصول لأقصى إمكانياته.
يتكون تقدير الذات حسب Nathaniel Branden من مكونين أساسيين:
- الكفاءة الذاتية self-efficacy الشعور بالثقة في مواجهة تحديات الحياة؛ الثقة في عمل عقلي، قدرتي على التفكير والفهم والتعلم والاختيار واتخاذ القرارات.
- احترام الذات self-respect التأكيد على قيمتي و استحقاقي للعيش والهناء؛ الشعور بالراحة في توكيد أفكاري و رغباتي و حاجاتي بشكل مناسب، الشعور بأن البهجة والاكتفاء هما حقي الطبيعي.
تقدير الذات يتمثل بوجهة نظرنا، موقفنا Attitudeتجاه ذواتنا، والذي يكون في بعض الأحيان خفي -حتى عن أنفسنا-، فقد يدرك من نجح بأنه ناجح، ويعترف بذلك النجاح، لكنه -على الرغم من ذلك- يحمل وجهة نظر تجاه ذاته بأنه شخص سيء وغير كفء. وقد يفشل أحدهم، ويحتفظ بتقديره لذاته. ليس مايفعله/ يحققه الشخص هو المعيار الوحيد لتحديد تقديره لذاته. يتبع تقدير الذات لمنطق داخلي غريب، تحقيق الإنجازات -أحياناً- ليس كافياً لنرضى عن أنفسنا ونقدرها، ربما للأمر علاقة بالصوت الناقد بداخلنا، ذلك الصوت النهم القادم من الماضي، والذي يمثل صدى لأصوات أشخاص مهمين بالنسبة لنا: آباؤنا، معلمينا، أقراننا، حين أخبرونا بأننا لسنا جيدين، فشلنا، وخيبنا ظنونهم. شكّلت هذه الاشتراطات والإهانات التي حدثت هناك صورةً أوليّةً عن أنفسنا الآن. إلا أنها -بالطبع- ليست قدراً محتوماً، دائما هناك مجال لخلق صور جديدة، وخوض تجارب جديدة، تنبثق منها أصواتاً أكثر لطفاً وتفهماً.
لا تنبع المشكلات النفسية دائماً من انخفاض تقدير الذات، هناك على الجانب الآخر العديد من المشكلات النفسية تنشأ من تضخم تقدير الذات والشعور بالاستحقاقية العالية – وهو أيضاً قد يكون استراتيجية مواجهة غير تكيفية لطفولة سيئة-، في كلا الحالتين، تضعف مرونة الشخص في التفاعل مع الآخر، وتنخفض قدرته على التعايش. يمكن القول بأن المستوى الصحي لتقدير الذات يكون في المدى الذي يتمكن الشخص فيه من إدراك مزاياه وتقديرها، واستيعاب عيوبه والعمل على تحسينها. كلما كانت نظرة الشخص لذاته أكثر شمولية وموضوعية اقترب من النضج والسواء.
تنتشر بين الناس الكثير من الأفكار حول تقدير الذات مستمدة -في معظمها- من مجال التنمية الذاتية، وهي مضللة ومضرة، لخصت -بتصرف- أربع أخطاء شائعة حول مفهوم تقدير الذات استعرضتها الكاتبة Jill Weber على موقع علم النفس اليوم:
الخرافة الأولى: الاعتقاد بأن تقدير الذات هِبَة إما أن تكون موجودة أو غير موجودة لدينا، وأن انخفاض قيمة الذات أمرٌ حتميٌ لمن لم يحظَ بالجينات اللازمة،أو الطفولة المثالية.
والصحيح أن تقدير الذات عملية مستمرة، ناتجة عن تفاعلات الشخص مع البيئة، وردود فعله على الخبرات التي يعيشها. فبدلاً من أن نتخلى عن أنفسنا معكل انتكاسة، ونراها كتصريحٍ نهائيٍ على فشلنا، من الأحرى أن نرى دائماً فرص النمو والتعلم المتاحةِ لنا.
الخرافة الثانية: الاعتقاد بأن أخذ استراحة من الحياة الاجتماعية، والتركيز فقط على أنفسنا، سيزيد من تقدير الذات، وسيجعلنا نعود بشكل أفضل.
والصحيح أن تقدير الذات يُكتسب غالباً من التفاعل مع الآخرين، والدخول في علاقات وخبرات اجتماعية يوفر فرصاً كبيرة لتكوين صورةٍ إيجابية عن الذات.
الخرافة الثالثة: الاعتقاد بأن العمل في الأمور التي نعرفها ونُجِيدها هو وحده ما يزيد من تقديرنا لذواتنا.
والصحيح أن القيام بالمهام الصعبة والتجارب الجديدة مهم أيضاً، لأنه يجعلنا نرى أنفسنا بمنظور جديد، ويزيد من احساسنا بالقوة والتمكين.
الخرافة الرابعة: الاعتقاد بأن الأمور المادية أو العلاقات الرومانسية -بحد ذاتها- تحسّن من تقدير الذات.
والصحيح أن الاعتماد الكلي على المظاهر التي توحي بالتفوّق والنجاح، قد يعطي احساساً وهمياً وهشاً بذواتنا، وذلك حين نربط قيمتنا بوجود مثل هذهالأمور.
وكما ارتبط انخفاض تقدير الذات وتضخمه بالعديد من المشكلات والاضطرابات النفسية، فإن تقدير الذات الصحي المتزن مرتبط بحياة أكثر ثراءً ومعنى، وصفها كارل روجرز في النص التالي:
” الشخص الذي يعيش بشكلٍ كامل، هو شخصٌ منفتح على كل خبراته، حساسٌ لما يجري في بيئته، وحساسٌ اتجاه الأفراد الآخرين الذين يرتبط بهم، وحساسٌ -ربما أكثر من أي شيء آخر- تجاه المشاعر والمعاني التي يكتشفها في نفسه. يستمر الخوف من بعض جوانب تجربته الخاصة في التقلص، بحيث يتوافر له المزيد والمزيد من حياته. مثل هذا الشخص يعيش في الوقت الحاضر، إنه غير مرتبطٍ ببنية تعلمه السابق، بل يعيش بحريةٍ في مواجهةٍ وجوديةٍ مع كل لحظة في الحياة. وبفضل انفتاحه الحساس على عالمه، وثقته في قدرته على تكوين علاقات جديدة مع بيئته، تنبثق منه الحياة الإبداعية. أخيرًا، يعيش مثل هذا الشخص حياة تتضمن نطاقًا أوسع، وثراءً أكبر من الحياة المقيّدة التي يجد معظمنا أنفسنا فيها. مثلُ هؤلاء يعيشون بشكلٍ أكثر حميمية مع مشاعر الألم، وبشكلٍ أكثر عمقاً مع مشاعر الفرح. الغضب محسوسٌ لديهم بشكل أكبر، والحب أيضًا. يعيشون تجربة الخوف بشكل مكثف، لكن بشجاعة أكبر. والسبب في أنهم يستطيعون العيش بشكلٍ كامل هو أن لديهم هذه الثقة الكامنة في أنفسهم كأشخاص جديرين بالثقة لمواجهة الحياة.”
وأخيراً، يسير تقدير الذات جنباً إلى جنب مع عملية مستمرة ومتجددة وهي معرفة الذات. نجهل الكثير عن أنفسنا -ربما أكثر مما نظن- وطالما نسير في هذه الحياة، سنكتشف أموراً لم نكن نعرفها عنا. وسيتجدد دائماً احساسنا بذواتنا مع كل اكتشاف.
- The Six Pillars of Self-Esteem — Nathaniel Branden
- Readings in Human Development: A Humanistic Approach – Theron M. Covin
- https://www.psychologytoday.com/us/blog/having-sex-wanting-intimacy/201906/4-myths-about-self-esteem